رحلة ابن فضلان: العجم والأتراك
نص على العجم والأتراك
العجم والأتراك
فرحلنا من مدينة السلام «١٩» يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وثلاثمئة «٢٠» فأقمنا بالنهروان «٢١» يوما واحدا، ورحلنا مجدين «٢٢» حتى وافينا الدسكرة «٢٣» فأقمنا بها ثلاثة أيام، ثم رحلنا قاصدين لا نلوي على شيء حتى صرنا إلى حلوان «٢٤» فأقمنا بها يومين.
وسرنا منها إلى قرميسين «٢٥» فأقمنا بها يومين، ثم رحلنا فسرنا حتّى وصلنا إلى همذان «٢٦» فأقمنا بها ثلاثة أيام.
ثم سرنا حتى قدمنا ساوة «٢٧» فأقمنا بها يومين، ومنها إلى الري «٢٨» فأقمنا بها أحد عشر يوما ننتظر أحمد ابن علي أخا صعلوك «٢٩» لأنه كان بخوار الري «٣٠».
ثم رحلنا إلى خوار الري فأقمنا بها ثلاثة أيام، ثم رحلنا إلى سمنان «٣١» ثم منها إلى الدامغان «٣٢» صادفنا بها ابن قارن «٣٣» من قبل الداعي «٣٤» ، فتنكّرنا في القافلة، وسرنا مجدّين حتى قدمنا نيسابور «٣٥» وقد قتل ليلى بن نعمان «٣٦» ، فأصبنا «٣٧» بها حمويه كوسا صاحب جيش خراسان «٣٨».
ثم رحلنا إلى سرخس «٣٩» ثم منها إلى مرو «٤٠» ثم منها إلى قشمهان «٤١» وهي طرف مفازة آمل «٤٢» فأقمنا بها ثلاثة أيام نريح الجمال لدخول المفازة.
ثم قطعنا المفازة إلى آمل، ثم عبرنا جيحون «٤٣» وصرنا إلى آفرير «٤٤» رباط طاهر بن علي «٤٥» .
ثم رحلنا إلى بيكند «٤٦» ثم دخلنا بخارى «٤٧» وصرنا «٤٨» إلى الجيهاني «٤٩» وهو كاتب أمير خراسان، وهو يدعى بخراسان الشيخ العميد، فتقدم بأخذ دار لنا، وأقام لنا رجلا يقضي حوائجنا ويزيح عللنا «٥٠» في كل ما نريد فأقمنا أياما.
ثم استأذن لنا على نصر بن أحمد «٥١» فدخلنا إليه، وهو غلام أمرد، فسلّمنا عليه بالإمرة وأمرنا بالجلوس، فكان أول ما بدأنا به أن قال: كيف خلّفتم مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وسلامته في نفسه وفتيانه وأوليائه فقلنا: بخير. قال: زاده الله خيرا.
ثم قرىء الكتاب عليه بتسلم أرثخشمثين «٥٢» من الفضل بن موسى النصراني «٥٣» وكيل ابن الفرات «٥٤» وتسليمها إلى أحمد بن موسى الخوارزمي «٥٥» وإنفاذنا والكتاب إلى صاحبه بخوارزم بترك العرض «٥٦» لنا والكتاب بباب الترك ببذرقتنا «٥٧» وترك العرض لنا.
فقال: وأين أحمد بن موسى فقلنا: خلّفناه بمدينة السلام ليخرج خلفنا لخمسة أيام. فقال: سمعا وطاعة لما أمر به مولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه.
قال: واتصل الخبر بالفضل بن موسى النصراني وكيل ابن الفرات فأعمل الحيلة في أمر أحمد بن موسى، وكتب إلى عمّال المعاون «٥٨» بطريق خراسان من جند سرخس إلى بيكند: أن أذكوا العيون «٥٩» على أحمد بن موسى الخوارزمي في الخانات «٦٠» والمراصد «٦١» وهو رجل من صفته ونعته فمن ظفر به فليعتقله إلى أن يرد عليه كتابنا بالمسألة، فأخذ بمرو واعتقل.
وأقمنا نحن ببخارى ثمانية وعشرين يوما، وقد كان الفضل بن موسى أيضا واطأ عبد الله بن باشتو وغيره من أصحابنا يقولون: إن أقمنا هجم الشتاء وفاتنا الدخول وأحمد بن موسى إذا وافانا لحق بنا.
قال «٦٢» :
ورأيت الدراهم ببخارى ألوانا شتّى منها دراهم يقال لها الغطريفية «٦٣» : وهي نحاس وشبه «٦٤» وصفر يؤخذ منها عدد بلا وزن، مئة منها بدرهم فضّة، وإذا شروطهم في مهور نسائهم: تزوج فلان ابن فلان فلانة بنت فلان على كذا وكذا ألف درهم غطريفية، وكذلك أيضا شراء عقارهم وشراء عبيدهم لا يذكرون غيرها من الدراهم، ولهم دراهم أخر صفر وحده أربعون منها بدانق، ولهم أيضا دراهم صفر يقال لها السمرقندية «٦٥» ستة منها بدانق.
فلمّا سمعت كلام عبد الله بن باشتو وكلام غيره يحذرونني من هجوم الشتاء رحلنا من بخارى راجعين إلى النهر، فتكارينا سفينة إلى خوارزم، والمسافة إليها من الموضع الذي اكترينا منه السفينة أكثر من مئتي فرسخ «٦٦» فكنّا نسير بعض النهار ولا يستوي لنا سيره كلّه من البرد وشدّته، إلى أن قدمنا خوارزم فدخلنا على أميرها محمد ابن عراق خوارزم شاه «٦٧» فأكرمنا وقربنا وأنزلنا دارا، فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضرنا وناظرنا «٦٨» في الدخول إلى بلد التّرك وقال: لا آذن لكم في ذلك ولا يحلّ إلي ترككم تغررون «٦٩» بدمائكم وأنا أعلم أنها حيلة أوقعها هذا الغلام، يعني تكين «٧٠» لأنه كان عندنا حدّادا وقد وقف على «٧١» بيع الحديد ببلد الكفار «٧٢» ، وهو الذي غرّ «٧٣» نذيرا وحمله على كلام أمير المؤمنين «٧٤» وإيصال كتاب ملك الصقالبة إليه والأمير الأجلّ، يعني أمير خراسان، كان أحقّ بإقامة الدعوة لأمير المؤمنين في ذلك البلد لو وجد محيصا «٧٥» ومن بعد فبينكم وبين هذا البلد الذي تذكرون ألف قبيلة من الكفار، وهذا تمويه «٧٦» على السلطان وقد نصحتكم.
ولا بد من الكتاب إلى الأمير الأجلّ حتى يراجع السلطان، أيّده الله، في المكاتبة وتقيمون أنتم إلى وقت يعود الجواب، فانصرفنا عنه ذلك اليوم ثم عاودناه ولم نزل نرفق به ونقول: هذا أمر أمير المؤمنين وكتابه فما وجه المراجعة فيه حتى أذن لنا، فانحدرنا من خوارزم إلى الجرجانية «٧٧» وبينها وبين خوارزم في الماء خمسون فرسخا.
ورأيت دراهم خوارزم مزيّفة ورصاصا وزيوفا «٧٨» وصفرا، ويسمون الدرهم طازجة «٧٩» ووزنه أربعة دوانيق ونصف، والصيرفي منهم يبيع الكعاب «٨٠» والدوامات «٨١» والدراهم.
وهم أوحش الناس كلاما وطبعا، كلامهم أشبه شيء بصياح الزرازير، وبها قرية على يوم يقال لها أردكو «٨٢» أهلها يقال لهم الكردلية «٨٣» كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «٨٤» رضي الله عنه في دبر «٨٥» كل صلاة.
فأقمنا بالجرجانية أياما وجمد نهر جيحون من أوّله إلى آخره، وكان سمك الجمد سبعة عشر شبرا «٨٦» وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطرق، وهو ثابت لا يتخلخل، فأقام على ذلك ثلاثة أشهر.
فرأينا بلدا ما ظننا إلا أن بابا من الزمهرير قد فتح علينا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة «٨٧» وإذا أتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد برّه «٨٨» قال له: تعال إليّ حتى نتحدث فإن عندي نارا طيبة هذا إذا بالغ في برّه وصلته إلا أن الله تعالى قد لطف بهم في الحطب، أرخصه عليهم: حمل عجلة من حطب الطاغ «٨٩» بدرهمين من دراهمهم تكون زهاء ثلاثة آلاف رطل «٩٠» .
ورسم سؤالهم أن لا يقف السائل على الباب، بل يدخل إلى دار الواحد منهم فيقعد ساعة عند ناره يصطلي، ثم يقول: بكند، يعني الخبز، فإن أعطوه شيئا أخذ وإلا خرج.
وتطاول مقامنا بالجرجانيّة وذلك أنّا أقمنا بها أياما من رجب وشعبان وشهر رمضان وشوال، وكان طول مقامنا من جهة البرد وشدّته، ولقد بلغني أن رجلين ساقا اثني عشر جملا ليحملا عليها حطبا من بعض الغياض «٩١» فنسيا أن يأخذا معهما قدّاحة «٩٢» وحرّاقة «٩٣» وأنهما باتا بغير نار فأصبحا والجمال موتى لشدة البرد.
ولقد رأيت لهواء بردها بأن السوق بها والشوارع لتخلو حتى يطوف الإنسان أكثر الشّوارع والأسواق فلا يجد أحدا ولا يستقبله إنسان، ولقد كنت أخرج من الحمّام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار «٩٤».
ولقد كنت أنام في بيت جوف بيت «٩٥» وفيه قبة لبود «٩٦» تركية وأنا مدثر بالأكسية والفرى «٩٧» فربما التصق خدي على المخدة. ولقد رأيت الجباب «٩٨» بها تكسي البوستينات «٩٩» من جلود الغنم لئلا تتشقّق وتنكسر فلا يغني ذلك شيئا.
ولقد رأيت الأرض تنشقّق فيها أودية عظام لشدة البرد، وأن الشجرة العظيمة العادية لتنفلق بنصفين لذلك. فلما انتصف شوال من سنة تسع وثلاثمئة أخذ الزمان في التغير، وانحل نهر جيحون، وأخذنا نحن فيما نحتاج إليه من آلة السفر واشترينا الجمال التركية «١٠٠» واستعملنا السفر «١٠١» من جلود الجمال لعبور الأنهار التي نحتاج أن نعبرها في بلد الترك وتزودنا الخبز والجاورس «١٠٢» والنمكسوذ «١٠٣» لثلاثة أشهر.
وأمرنا من كنا نأنس به من أهل البلد بالاستظهار «١٠٤» في الثياب والاستكثار منها، وهوّلوا علينا الأمر وعظّموا القصّة، فلما شاهدنا ذلك كان أضعاف ما وصف لنا، فكان كل رجل منا عليه قرطق «١٠٥» وفوقه خفتان «١٠٦» وفوقه بوستين «١٠٧» وفوقه لبادة «١٠٨» وبرنس «١٠٩» لا تبدو منه إلا عيناه وسراويل طاق «١١٠» وآخر مبطّن وران «١١١» وخف «١١٢» كيمخت «١١٣» وفوق الخفّ خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب، وتأخر عنا الفقيه والمعلم والغلمان الذين خرجوا معنا من مدينة السلام فزعا من الدخول إلى ذلك البلد، وسرت أنا والرسول وسلف له والغلامان تكين وبارس «١١٤».
فلما كان في اليوم الذي عزمنا فيه على المسير قلت لهم: يا قوم معكم غلام الملك وقد وقف على أمركم كله ومعكم كتب السلطان، ولا أشكّ أن فيها ذكر توجيه أربعة آلاف دينار المسيبية «١١٥» له وتصيرون إلى ملك أعجمي «١١٦» فيطالبكم بذلك، فقالوا: لا تخش من هذا فإنه غير مطالب لنا، فحذّرتهم وقلت: أنا أعلم أنه يطالبكم فلم يقبلوا «١١٧».
واستدفّ «١١٨» أمر القافلة، واكترينا دليلا يقال له قلواس من أهل الجرجانية، ثم توكلنا على الله عز وجل وفوّضنا أمرنا إليه، ورحلنا من الجرجانية يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمئة «١١٩» ، فنزلنا رباطا «١٢٠» يقال له زمجان وهو بباب الترك، ثم رحلنا من الغد، فنزلنا منزلا يقال له جيت، وجاءنا الثلج حتى مشت الجمال إلى ركبها فيه فأقمنا بهذا المنزل يومين.
ثم أوغلنا في بلد الترك لا نلوي على شيء ولا يلقانا أحد في برية قفر بغير جبل، فسرنا فيها عشرة أيام، ولقد لقينا من الضر والجهد والبرد الشديد وتواصل الثلوج الذي كان برد خوارزم عنده مثل أيام الصيف، ونسينا كل ما مر بنا وأشرفنا على تلف الأنفس.
ولقد أصابنا في بعض الأيام برد شديد وكان تكين يسايرني «١٢١» وإلى جانبه رجل من الأتراك يكلمه بالتركية فضحك تكين وقال: إن هذا التركي يقول لك: أي شيء يريد ربنا منا هوذا يقتلنا بالبرد ولو علمنا ما يريد لرفعناه إليه؟ فقلت له: قل له يريد منكم أن تقولوا لا إله إلا الله فضحك وقال: لو علمنا لفعلنا «١٢٢».
ثم صرنا بعد ذلك إلى موضع فيه من حطب الطاغ «١٢٣» شيء عظيم فنزلناه، وأوقدت القافلة واصطلوا «١٢٤» ونزعوا ثيابهم وشرّروها «١٢٥» .
ثم رحلنا فما زلنا نسير في كل ليلة من نصف الليل إلى وقت العصر أو إلى الظهر بأشد سير يكون وأعظمه، ثم ننزل، فلما سرنا خمس عشرة ليلة، وصلنا إلى جبل عظيم كثير الحجارة وفيه عيون تنجرف عبره وبالحفرة تستقر الماء.
فلما قطعناه أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية «١٢٦» وإذا هم بادية لهم بيوت شعر يحلون ويرتحلون ترى منهم الأبيات في كل مكان، ومثلها في مكان آخر على عمل البادية وتنقلهم وإذا هم في شقاء، وهم مع ذلك كالحمير الضالة، لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل ولا يعبدون شيئا، بل يسمّون كبراءهم أربابا «١٢٧» ، فإذا استشار أحدهم رئيسه في شيء قال له: يا رب إيش «١٢٨» أعمل في كذا وكذا وأمرهم شورى بينهم غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسّهم فنقض ما قد أجمعوا عليه.
وسمعتهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله تقرّبا بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين لا اعتقادا لذلك، وإذا ظلم أحد منهم أو جرى عليه أمر يكرهه رفع رأسه إلى السماء وقال: بير تنكري، وهو بالتركية الله الواحد لأن بير بالتركية واحد وتنكري: الله بلغة الترك. ولا يستنجون «١٢٩» من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة «١٣٠» ولا غير ذلك، وليس بينهم وبين الماء عمل خاصة في الشتاء، ولا يستتر نساؤهم من رجالهم ولا من غيرهم، كذلك لا تستر المرأة شيئا من بدنها عن أحد من الناس.
ولقد نزلنا يوما على رجل منهم فجلسنا وامأة الرجل معنا فبينا هي تحدثنا إذ كشفت فرجها وحكّته، ونحن ننظر إليها فسترنا وجوهنا وقلنا: أستغفر الله، فضحك زوجها وقال للترجمان: قل لهم تكشفه بحضرتكم فترونه وتصونه فلا يوصل إليه هو خير من أن تغطيه وتمكّن منه. وليس يعرفون الزنا ومن ظهروا منه على شيء من فعله شقّوه بنصفين، وذلك أنهم يجمعون بين أغصان شجرتين ثم يشدّونه بالأغصان ويرسلون «١٣١» الشجرتين فينشقّ الذي شدّ إليهما.
وقال بعضهم وسمعني أقرا قرآنا فاستحسن القرآن وأقبل يقول للترجمان قل له:
لا تسكت. وقال لي هذا الرجل يوما على لسان الترجمان: قل لهذا العربي: ألربنا عزّ وجلّ امرأة؟ فاستعظمت ذلك وسبّحت الله واستغفرته، فسبّح واستغفر كما فعلت، وكذلك رسم «١٣٢» التركي كلّما سمع المسلم يسبّح ويهلّل قال مثله.
ورسوم تزويجهم «١٣٣» وهو أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه: إما ابنته أو أخته أو بعض من يملك أمره على كذا وكذا ثوب خوارزمي «١٣٤» فإذا وافقه حملها إليه، وربّما كان المهر جمالا أو دواب أو غير ذلك، وليس يصل الواحد إلى امرأته حتى يوفي الصداق الذي قد وافق وليّها عليه، فإذا وفّاه إياه جاء غير محتشم حتى يدخل إلى المنزل الذي هي فيه فيأخذها «١٣٥» بحضرة أبيها وأمها وإخوتها، فلا يمنعونه من ذلك.
وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد تزوّج الأكبر من ولده بامرأته إذا لم تكن أمه، ولا يقدر أحد من التجار ولا غيرهم أن يغتسل من جنابة بحضرتهم إلا ليلا، من حيث لا يرونه، وذلك أنهم يغضبون ويقولون: هذا يريد أن يسحرنا لأنه قد تفرس «١٣٦» في الماء ويغرمونه مالا.
ولا يقدر أحد من المسلمين أن يجتاز ببلدهم حتى يجعل له منهم صديقا ينزل عليه، ويحمل له من بلد الإسلام ثوبا ولامرأته مقنعة «١٣٧» وشيئا من فلفل «١٣٨» وجاورس «١٣٩» وزبيب وجوز فإذا قدم على صديقه ضرب له قبة وحمل إليه من الغنم على قدره حتى يتولّى المسلم ذبحها، لأن الترك لا يذبحون وإنما يضرب الواحد منهم رأس الشاة حتى تموت.
وإذا أراد الرجل منهم الرحيل وقد قام عليه شيء من جماله ودوابه أو احتاج إلى مال ترك ما قد قام عند صديقه التركي، وأخذ من جماله ودوابه وماله حاجته ورحل، فإذا عاد من الوجه الذي يقصده، قضاه «١٤٠» ماله وردّ إليه جماله ودوابه.
وكذلك لو اجتاز بالتركي إنسان لا يعرفه ثم قال: أنا ضيفك وأنا أريد من جمالك ودوابك ودراهمك، دفع إليه ما يريد، فإن مات التاجر في وجهه ذلك وعادت القافلة لقيهم التركي وقال: أين ضيفي؟ فإن قالوا: مات، حط القافلة ثم جاء إلى أنبل تاجر يراه فيهم، فحلّ متاعه وهو ينظر، فأخذ من دراهمه مثل ماله عند ذلك التاجر بغير زيادة حبة «١٤١» ، وكذلك يأخذ من دوابه وجماله، وقال: ذلك ابن عمك وأنت أحق من غرم «١٤٢» عنه، وإن فرّ فعل أيضا ذلك الفعل وقال له: ذلك مسلم مثلك، خذ أنت منه، وإن لم يوافق المسلم ضيفه في الجادة سأل عن بلاده: أين هو؟ فإذا أرشد إليه سار في طلبه مسيرة أيام حتى يصير إليه، ويرفع ماله عنده وكذلك ما يهديه له.
وهذه أيضا سبيل «١٤٣» التركي إذا دخل الجرجانية سأل عن ضيفه، فنزل عليه حتى يرتحل، ومتى مات التركي عند صديقه المسلم، واجتازت القافلة وفيها صديقه قتلوه وقالوا: أنت قتلته بحبسك إياه ولو لم تحبسه لما مات، وكذلك إن سقاه نبيذا فتردّى «١٤٤» من حائط «١٤٥» قتلوه به، فإن لم يكن في القافلة عمدوا «١٤٦» إلى أجلّ من فيها فقتلوه.
وأمر اللواط عندهم عظيم جدا. ولقد نزل على حي كوذركين- وهو خليفة ملك الترك- رجل من أهل خوارزم، فأقام عند ضيف له مدة في ابتياع غنم، وكان للتركي ابن أمرد «١٤٧» ، فلم يزل الخوارزمي يداريه «١٤٨» ويراوده «١٤٩» عن نفسه حتى طاوعه على ما أراد، وجاء التركي فوجدهما في بنيانهما «١٥٠» فرفع التركي ذلك إلى كوذركي فقال له: اجمع الترك. فجمعهم، فلمّا اجتمعوا قال للتركي: بالحقّ تحب أن أحكم أم بالباطل؟ قال: بالحق قال: أحضر ابنك. فأحضره فقال: يجب عليه وعلى التاجر أن يقتلا جميعا، فامتعض التركي من ذلك وقال: لا أسلّم ابني فقال: فيفتدي التاجر نفسه، ففعل ودفع للتركي غنما للفعل «١٥١» بابنه، ودفع إلى كوذركين أربعمائة شاة لما رفع عنه، وارتحل عن بلد الترك، فأول من لقينا من ملوكهم ورؤسائهم ينال الصغير «١٥٢» وقد كان أسلم فقيل له: إن أسلمت لم ترأسنا، فرجع عن إسلامه، فلمّا وصلنا إلى الموضع الذي هو فيه قال: لا أترككم تجوّزون لأن هذا شيء ما سمعنا به قط ولا ظننا أنه يكون. فرفقنا به إلى أن رضي بخفتان جرجاني «١٥٣» يساوي عشرة دراهم وشقة «١٥٤» باي باف «١٥٥» وأقراص خبز وكف زبيب ومئة جوزة، فلمّا دفعنا هذا إليه سجد لنا، وهذا رسمهم «١٥٦» إذا أكرم الرجل الرجل سجد له، وقال: لولا أن بيوتي نائية عن الطريق لحملت إليكم غنما وبرّا «١٥٧» ، وانصرف عنّا وارتحلنا.
فلمّا كان من غد لقينا رجل واحد من الأتراك، دميم الخلقة، رثّ الثياب، قميء «١٥٨» المنظر، خسيس المخبر، وقد أخذنا مطر شديد فقال: قفوا، فوقفت القافلة بأسرها وهي نحو ثلاثة آلاف دابة وخمسة آلاف رجل، ثم قال: ليس يجوز منكم أحد. فوقفنا طاعة لأمره، فقلنا له: نحن أصدقاء كوذركين، فأقبل يضحك ويقول:
من كوذركين أنا أخرى على لحية كوذركين. ثم قال: بكند يعني الخبز بلغة خوارزم، فدفعت إليه أقراصا، فأخذها وقال: مرّوا قد رحمتكم.
قال: وإذا مرض الرجل منهم وكان له جوار وعبيد، خدموه ولم يقربه أحد من أهل بيته، ويضربون له خيمة ناحية من البيوت، فلا يزال فيها إلى أن يموت أو يبرأ، وإن كان عبدا أو فقيرا رموا به في الصحراء وارتحلوا عنه.
وإذا مات الرجل منهم حفروا له حفيرة كبيرة كهيئة البيت وعمدوا إليه فألبسوه قرطقه «١٥٩» ومنطقته «١٦٠» وقوسه، وجعلوا في يده قدحا من خشب فيه نبيذ، وتركوا بين يديه إناء من خشب فيه نبيذ، وجاءوا بكل ماله فجعلوه معه في ذلك البيت،
ثم أجلسوه فيه، فسقفوا البيت عليه وجعلوا فوقه مثل القبة من الطين، وعمدوا إلى دوابه على قدر كثرتها فقتلوا منها مئة رأس إلى مئتي رأس إلى رأس واحد، وأكلوا لحومها إلا الرأس والقوائم والجلد والذنب، فإنهم يصلبون ذلك على الخشب، وقالوا:
هذه دوابه يركبها إلى الجنة. فإن كان قتل إنسانا وكان شجاعا نحتوا صورا من خشب على عدد من قتل وجعلوها على قبره، وقالوا: هؤلاء غلمانه يخدمونه في الجنة.
وربما تغافلوا «١٦١» على قتل لدواب يوما أو يومين، فيحثّهم شيخ من كبارهم فيقول: رأيت فلانا- يعني الميت- في النوم فقال لي: هو ذا تراني وقد سبقني أصحابي وشقّقت رجلاي من اتّباعي لهم، ولست ألحقهم وقد بقيت وحدي، فعندها يعمدون إلى دوابه فيقتلونها ويصلبونها عند قبره. فإذا كان بعد يوم أو يومين، جاءهم ذلك الشيخ وقال: قد رأيت فلانا وقال: عرف أهلي وأصحابي أني قد لحقت من تقدمني واسترحت من التعب.
قال: والترك كلهم ينتفون لحاهم إلا أسبلتهم «١٦٢» ، وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئا منها تحت ذقنه وعليه البوستين «١٦٣» فإذا رآه إنسان من بعد لم يشك أنه تيس.
وملك الترك الغزية يقال له يبغو «١٦٤» وهو اسم الأمير وكل من ملك هذه القبيلة فبهذا الاسم يسمى، ويقال لخليفته كوذركين وكذا كل من يخلف رئيسا منهم يقال له: كوذركين. ثم نزلنا بعد ارتحالنا من ناحية هؤلاء بصاحب جيشهم ويقال له «أترك بن القطغان» «١٦٥» فضرب لنا قبابا تركية «١٦٦» وأنزلنا فيها وإذا له ضبنة «١٦٧» وحاشية وبيوت كبيرة، وساق إلينا غنما وقاد دواب لنذبح الغنم ونركب الدواب، ودعا هو جماعة من أهل بيته وبني عمّه، فقتل «١٦٨» لهم غنما كثيرة، وكنا قد أهدينا إليه هدية من ثياب وزبيب وجوز وفلفل وجاورس، فرأيت امرأته وقد كانت امرأة أبيه وقد أخذت لحما ولبنا وشيئا مما أتحفناه «١٦٩» به، وخرجت من البيوت إلى الصحراء، فحفرت حفيرة، ودفنت الذي كان معها فيها، وتكلّمت بكلام فقلت للترجمان: ما تقول؟ قال: تقول هذه هدية للقطغان أبي الترك أهداها له العرب. فلمّا كان في الليل دخلت أنا والترجمان إليه وهو في قبته جالس ومعنا كتاب نذير الحرمي إليه يأمره فيه بالإسلام، ويحضّه عليه، ووجّه إليه خمسين دينارا فيها عدة دنانير مسيبية وثلاثة مثاقيل «١٧٠» مسك وجلود أديم «١٧١» وثياب مروية «١٧٢» وقطعنا له منها قرطقين «١٧٣» وخف أديم «١٧٤» وثوب ديباج «١٧٥» وخمسة أثواب حرير فدفعنا إليه هديته ودفعنا إلى امرأته مقنعة «١٧٦» وخاتما. وقرأت عليه الكتاب، فقال للترجمان: لست أقول لكم شيئا حتى ترجعوا وأكتب إلى السلطان بما أنا عازم عليه، ونزع الديباجة «١٧٧» التي كانت عليه ليلبس الخلع التي ذكرنا، فرأيت القرطق «١٧٨» الذي تحتها وقد تقطع وسخا، لأن رسومهم أن لا ينزع الواحد منهم الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعا، وإذا هو قد نتف لحيته كلّها وسباله فبقي كالخادم، ورأيت الترك يذكرون أنه أفرسهم «١٧٩» .
ولقد رأيته يوما وهو يسايرنا على فرسه إذ مرّت وزّة «١٨٠» طائرة فأوتر قوسه، وحرّك دابّته تحتها ثم رماها فإذا هو قد أنزلها.
فلمّا كان في بعض الأيام وجه خلف القوّاد الذين يلونه وهم: طرخان وينال وابن أخيهما وإيلغز، وكان طرخان أنبلهم وأجلّهم وكان أعرج أعمى أشلّ «١٨١» فقال لهم:
إن هؤلاء رسل ملك العرب إلى صهري ألمش بن شلكي «١٨٢» ولم يخيّر «١٨٣» لي أن أطلقهم إلا عن مشورتكم، فقال طرخان: هذا شيء ما رأيناه قطّ ولا سمعنا به ولا اجتاز بنا رسول سلطان مذ كنّا نحن وآباؤنا «١٨٤» وما أظن إلا أنّ السّلطان قد أعمل الحيلة ووجّه هؤلاء إلى الخزر «١٨٥» ليستجيش بهم علينا، والوجه أن يقطع هؤلاء الرسل نصفين نصفين ونأخذ ما معهم.
وقال آخر منهم: لا بل نأخذ ما معهم ونتركهم عراة يرجعون من حيث جاءوا.
وقال آخر: لا ولكن لنا عند ملك الخزر أسراء «١٨٦» فنبعث بهؤلاء نفادي بهم أولئك.
فما زالوا يتراجعون «١٨٧» بينهم هذه الأشياء سبعة أيام ونحن في حالة الموت حتى أجمع رأيهم على أن يخلوا سبيلنا ونمضي، فخلعنا على طرخان خفتانا مرويا «١٨٨» وشقتين باي باف «١٨٩» ، وعلى أصحابه كلّ واحد قرطقا وكذلك على ينال ودفعنا إليهم فلفلا وجاورس «١٩٠» وأقراصا من خبز، وانصرفوا عنا.
ورحلنا حتى صرنا إلى نهر يغندي «١٩١» فأخرج الناس سفرهم «١٩٢» وهي من جلود الجمال فبسطوها وأخذوا بالأثاث «١٩٣» من الجمال التركية لأنها مدوّرة فجعلوها في جوفها حتى تمتدّ، ثمّ حشوها بالثّياب والمتاع فإذا امتلأت جلس في كل سفرة جماعة من خمسة وستة وأربعة وأقل وأكثر، ويأخذون بأيديهم خشب الخدنك «١٩٤» فيجعلونه كالمجاديف، ولا يزالون يجدفون والماء يحملها وهي تدور حتى نعبر «١٩٥» ، فأمّا الدوابّ والجمال فإنه يصاح بها فتعبر سباحة، ولا بدّ أن تعبر جماعة من المقاتلة «١٩٦» ومعهم السلاح قبل أن يعبر شيء من القافلة ليكونوا طليعة للنّاس خيفة من الباشغرد «١٩٧» أن يكبسوا الناس وهم يعبرون.
فعبرنا يغندي «١٩٨» على هذه الصّفة التي ذكرنا، ثم عبرنا بعد ذلك نهرا يقال له جام «١٩٩» في السّفر أيضا، ثم عبرنا جاخش «٢٠٠» ثم أذل «٢٠١» ثم أردن «٢٠٢» ثم وارش «٢٠٣» ثم أختي «٢٠٤» ثم وتبا «٢٠٥» وهذه كلّها أنهار كبار.
ثم صرنا بعد ذلك إلى البنجاك «٢٠٦» وإذا هم نزول على ماء شبيه بالبحر غير جار وإذا هم سمر شديد والسّمرة، وإذا هم محلّقو اللحى فقراء، خلاف الغزية، لأنّي رأيت من الغزية من يملك عشرة آلاف دابّة ومئة ألف رأس من الغنم، وأكثر ما ترعى من الغنم ما بين الثلج تبحث بأظلافها تطلب الحشيش، فإذا لم تجده قضمت الثلج فسمنت غاية السّمن، فإذا كان الصّيف وأكلت الحشيش هزلت، فنزلنا على البجناك يوما واحدا ثم ارتحلنا فنزلنا على نهر جيخ «٢٠٧» وهو أكبر نهر رأيناه وأعظمه وأشدّه جرية، ولقد رأيت سفرة انقلبت فيه فغرق من كان فيها وذهبت رجال كثير من الناس وغرقت عدّة جمال ودوابّ ولم نعبره إلا بجهد. ثم سرنا أياما وعبرنا نهر جاخا «٢٠٨» ثم بعده نهر أرخز «٢٠٩» ثم باجاغ «٢١٠» ثم سمور «٢١١» ثم كنال «٢١٢» ثم نهر سوخ «٢١٣» ثم نهر كنجلو «٢١٤» .
ووقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد «٢١٥» فحذّرناهم أشدّ الحذر، وذلك أنّهم شرّ الأتراك وأقذرهم وأشدّهم إقداما على القتل، يلقى الرّجل الرّجل فيفزّر «٢١٦» هامته ويأخذها ويتركه. وهم يحلقون لحاهم، ويأكلون القمل، يتتبّع الواحد منهم درز «٢١٧» قرطقه «٢١٨» فيقرض القمل بأسنانه. ولقد كان معنا منهم واحد قد أسلم، وكان يخدمنا، فرأيته وجد قملة في ثوبه فقصعها «٢١٩» بظفره، ثمّ لحسها وقال لما رآني: جيد.
وكلّ واحد منهم ينحت خشبة على قدر الإحليل ويعلّقها عليه، فإذا أراد سفرا أو لقاء عدوّ قبّلها وسجد لها وقال: يا رب افعل بي كذا وكذا. فقلت للتّرجمان: سل بعضهم ما حجّتهم في هذا ولم جعله ربّه؟ قال: لأني خرجت من مثله فلست أعرف لنفسي خالقا غيره.
ومنهم من يزعم أنّ له اثني عشر ربّا: للشتاء ربّ وللصيّف ربّ وللمطر ربّ وللريح ربّ وللشّجر ربّ وللنّاس ربّ وللدوابّ ربّ وللماء ربّ وللّيل ربّ وللنّهار ربّ وللموت ربّ وللأرض ربّ، والربّ الذي في السماء أكبرهم إلا أنّه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضى كلّ واحد منهم بما يعمل شريكه تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، ورأينا طائفة منهم تعبد الحيّات، وطائفة تعبد السّمك، وطائفة تعبد الكراكي «٢٢٠» فعرفوني أنهم كانوا يحاربون قوما من أعدائهم فهزموهم وأن الكراكي صاحت وراءهم ففزعوا وانهزموا، بعدها هزموا فعبدوا الكراكي لذلك وقالوا: هذه ربّنا وهذه فعالاته هزم أعداءنا فهم يعبدونها لذلك «٢٢١».
قال: وسرنا من بلد هؤلاء فعبرنا نهر جرمشان «٢٢٢» ثم نهر أورن «٢٢٣» ثم نهر أورم «٢٢٤» ثم نهر بياناخ «٢٢٥» ثم نهر وتيغ «٢٢٦» ثم نهر نياسنه ثم نهر جاوشيز «٢٢٧» ، وبين النهر والنهر مما ذكرنا اليومان والثلاثة والأربعة وأقلّ من ذلك وأكثر.